فصل: (سورة الأحزاب: الآيات 1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم السبت، وهو يوم لا يُعمل فيه شيئًا، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثًا فأصابه ما لم يخفَ عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدًا، فإنّا نخشى إنْ ضرستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال سيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلًا واحدًا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلاّ أنْ تقاتلوا، فإنْ وجدوا فرصة انتهزوها، وإنْ كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنًا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى انصرفوا راجعين والحمد لله ربّ العالمين.
قال الله تعالى: {وَإذْ زَاغَت} مالت {الأبصار} وشخصت {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} فأمّا المنافقون فظنّوا أنَّ محمّدًا وأصحابه سيُغلبون ويُستأصلون، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ من أنّه سيظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون. واختلف القرّاء في قوله: الظُّنُونَا والرسولا والسبيلا، فأثبت الألفات فيها وصلًا ووقفًا، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر، وأبو عمر برواية ابن عبّاس. والكسائي برواية قتيبة، قالوا: إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين على الأصل.
وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنّها رءوس الآي تمثيلًا لها بالقوافي.
قوله عزّ وجلّ: {هُنَالكَ ابتلي المؤمنون} أي أُختبروا ومحّصوا ليعرف المؤمن من المنافق {وَزُلْزلُوا} وحُرّكوا وخوّفوا {زلْزَالًا} تحريكًا {شَديدًا} وقرأ عاصم الحجدري {زلزالًا} بفتح الزاي وهما مصدران.
{وَإذْ يَقُولُ المنافقون} يعني معتب بن قشير وأصحابه {والذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ} شكّ وضعف اعتقاد {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا وَإذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ} أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه، وقال مُقاتل: هم من بني سالم {يا أهل يَثْربَ} يعني المدينة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول عليه السلام في ناحية منها. {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} قراءة العامّة بفتح الميم، أي لا مكان لكم تقيمون فيه. وقرأ السّلمي بضم الميم، أي لا إقامة لكم، وهي رواية حفص عن عاصم {فارجعوا} إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عبّاس: قالت اليهود لعبد الله بن أُبي وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعواإلى المدينة فرجعوا {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبي} في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي هي خالية ضائعة وهي ممّا يلي العدوّ، وإنّا نخشى عليها العدوّ والسرّاق. وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء العطاردي عورة، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة، والعرب تقول: دار فلان عورة، إذا لم تكن حصينة، وقد اعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب، قال الشاعر:
متى تلقهم لا تلقى في البيت معورًا ** ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا

قال الله تعالى: {وَمَا هيَ بعَوْرَةٍ إن يُريدُونَ إلاَّ فرَارًا وَلَوْ دُخلَتْ عَلَيْهمْ} يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة {مّنْ أَقْطَارهَا} جوانبها ونواحيها، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطرٌ وأقطار.
{ثُمَّ سُئلُوا الفتنة} الشرك {لآتَوْهَا} قراءة أهل الحجاز بقصر الألف، أي لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا، وقرأ الآخرون بالمدّ، أي لأعطوها. وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء {وَمَا تَلَبَّثُوا بهَآ} وما احتبسوا عن الفتنة {إلاَّ يَسيرًا} ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلاّ قليلًا حتى يهلكوا {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله من قَبْلُ} أي من قبل غزوة الخندق {لاَ يُوَلُّونَ} عدوّهم {الأدبار}.
وقال يزيد بن دومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحُد أنْ يفشلوا مع بني سلمة، فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أنْ لا يعودوا لمثلها أبدًا، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا لنقاتلنّ، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة.
وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلًا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا له: اشترط لربّك ولنفسك ما شئت، فقال النبي عليه السلام: «اشترط لربّي أنْ تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أَنْ تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يارسول الله؟ قال: لكم النصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة» قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم.
{وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} قوله عزّ وجلّ: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَو القتل} الذي كُتب عليكم {وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَليلًا} إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل.
{قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ مّنَ الله إنْ أَرَادَ بكُمْ سواءا} هزيمة {أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} نصرة {وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا وَلاَ نَصيرًا}. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الأحزاب مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية، نزلت بعد آل عمران.
بسْم اللَّه الرَّحْمن الرَّحيم.

.[سورة الأحزاب: الآيات 1- 3]:

{يا أَيُّهَا النَّبيُّ اتَّق اللَّهَ وَلا تُطع الْكافرينَ وَالْمُنافقينَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَليمًا حَكيمًا (1) وَاتَّبعْ ما يُوحى إلَيْكَ منْ رَبّكَ إنَّ اللَّهَ كانَ بما تَعْمَلُونَ خَبيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وَكَفى باللَّه وَكيلًا (3)}.
عن زرّ قال: قال لي أبىّ بن كعب رضى اللّه عنه: كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبىّ بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول.
ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم. أراد أبىّ رضى اللّه عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأمّا ما يحكى: أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضى اللّه عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض. جعل نداءه بالنبىّ والرسول في قوله: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ اتَّق اللَّهَ} {يا أَيُّهَا النَّبيُّ لمَ تُحَرّمُ} {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزلَ إلَيْكَ} وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم. يا موسى، يا عيسى.
يا داود: كرامة له وتشريفا، وربئا بمحله وتنويها بفضله. فإن قلت: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه، وَما مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ. قلت: ذاك لتعليم الناس بأنه رسول اللّه وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به، فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنْفُسكُمْ} {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبّ} {لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} {النَّبيُّ أَوْلى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ} {إنَّ اللَّهَ وَمَلائكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيّ} {وَلَوْ كانُوا يُؤْمنُونَ باللَّه وَالنَّبيّ} {اتق اللّه} واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه، وازدد منه، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره وَلا تُطع الْكافرينَ وَالْمُنافقينَ لا تساعدهم على شيء. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء اللّه وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة. وروى أنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود قريظة والنضير وبنى قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم. وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم فنزلت. وروى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد اللّه بن أبىّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس، فقالوا للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك، فشق ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم، فنزلت: أي اتق اللّه في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروى أنّ أهل مكة دعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع.
فنزلت {إنَّ اللَّهَ كانَ عَليمًا} بالصواب من الخطإ، والمصلحة من المفسدة حَكيمًا لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة {وَاتَّبعْ ما يُوحى إلَيْكَ} في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك إنَّ اللَّهَ الذي يوحى إليك {خبير بما تَعْمَلُونَ} فموح إليك ما يصلح به أعمالكم، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة. وقرئ: {يعملون} بالياء، أي: بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره وَكيلًا حافظا موكولا إليه كل أمر.

.[سورة الأحزاب: الآيات 4- 5]:

{ما جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئي تُظاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهاتكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلكُمْ قَوْلُكُمْ بأَفْواهكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدي السَّبيلَ (4) ادْعُوهُمْ لآبائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ في الدّين وَمَواليكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيما أَخْطَأْتُمْ به وَلكنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمًا (5)}.
ما جمع اللّه قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل.
والمعنى: أن اللّه سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين- لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بدأك، فذلك يؤدى إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها. عالما ظانا، موقنا شاكا في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان، وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له لأنّ النبوّة. أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة: إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل، وهذا مثل ضربه اللّه في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبى صغيرا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه، فخير فاختار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ منْ رجالكُمْ} وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وأرواهم، فقيل له: ذو القلبين. وقيل: هو جميل بن أسد الفهري، وكان يقول: إن لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروى أنه انهزم يوم بدر، فمرّ بأبى سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب، فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلىّ، فأكذب اللّه قوله وقولهم، وضربه مثلا في الظهار والتبني.
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم اللّه. وقيل: سها في صلاته، فقالت اليهود: له قلبان: قلب مع أصحابه، وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت في أن الواحد يقول: نفس تأمرنى ونفس تنهاني. والتنكير في رجل، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى، كأنه قال: ما جعل اللّه لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه.
فإن قلت: أي فائدة في ذكر الجوف؟ قلت: الفائدة فيه كالفائدة في قوله: {الْقُلُوبُ الَّتي في الصُّدُور} 0وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر التجلي المدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار. وقرئ: {اللايئ} بياء وهمزة مكسورتين. واللائي بيا ساكنة بعد الهمزة: و{تظاهرون} من ظاهر و{تظاهرون} من اظاهر، بمعنى تظاهر. و{تظهرون} من أظهر، بمعنى تظهر. و{تظهرون} من ظهر، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد. و{تظهرون} من ظهر، بلفظ فعل من الظهور. ومعنى ظاهر من امرأته: قال لها: أنت علىّ كظهر أمى. ونحوه في العبارة عن اللفظ: لبى المحرم، إذا قال لبيك. وأفف الرجل: إذا قال: أف وأخوات لهنّ. فإن قلت: فما وجه تعديته وأخواته بمن؟ قلت: كان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية. فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة، فكان قولهم: تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها. وظاهر منها: حاذر منها، وظهر منها: وحش منها. وظهر منها: خلص منها. ونظيره: آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد منها عدّى بمن، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى: حلف وأقسم، ليس هذا بحكمه.
فإن قلت: ما معنى قولهم: أنت علىّ كظهر أمى؟ قلت: أرادوا أن يقولوا: أنت علىّ حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن. ومنه حديث عمر رضى اللّه عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه: أراد على ظهره. ووجه آخر: وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرّما عندهم محظورا، وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه، شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك. فإن قلت: الدعىّ فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يدعى ولدا فما له جمع على افعلاء، وبابه: ما كان منه بمعنى فاعل، كتقى وأتقياء، وشقىّ وأشقياء، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى. قلت: إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي ذلكُمْ النسب هو قَوْلُكُمْ بأَفْواهكُمْ هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقا. واللّه عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه، ولا يهدى إلا سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله: {ادْعُوهُمْ لآبائهمْ} وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها: من الحسن والفصاحة ما لا يغبى على عالم بطرق النظم. وقرأ قتادة:
وهو الذي يهدى السبيل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه: ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا لهم آباء تنسبونهم إليهم فهم {فَإخْوانُكُمْ في الدّين} وأولياؤكم في الدين فقولوا: هذا أخى وهذا مولاي، ويا أخى، ويا مولاي: يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه ما تَعَمَّدَتْ في محل الجرّ عطفا على ما أخطأتم. ويجوز أن يكون مرتفعا على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. والمعنى: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهى، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهى.
أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنىّ على سبيل الخطإ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين. ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم، كقوله عليه الصلاة والسلام «ما أخشى عليكم الخطأ ولكن أخشى عليكم العمد» وقوله عليه الصلاة والسلام «وضع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده.
فإن قلت: فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت: إذا كان المتبنى مجهول النسب وأصغر سنا من المتبنى ثبت نسبه منه، وإن كان عبدا له عتق مع ثبوت النسب، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب، ولكنه يعتق عند أبى حنيفة رحمه اللّه تعالى، وعند صاحبيه لا يعتق. وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبدا عتق {وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمًا} لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد.